التأدُّب مع الله تعالى حديثه يطول،
وهو ذو شجونٍ كثيرة.
إنَّه حديث الدرجات العليا من الناس،
حديث عباد الله تعالى حين يقفون بين يدي خالقهم سبحانه..
يعبدونه،
يدعونه،
ويبتغون عنده العزة.
إنَّه حديث أولياء الله تعالى المفلحون،
حديث من أوجد عندهم الأدبُ مع الله تعالى نوعًا من الحساسية واليقظة؛
الحساسية حين تأبى نفوسهم كل ما قد يخلُّ بتلكم العلاقة المتينة مع ربهم سبحانه،
واليقظة التي تجعلهم منتبهين حين يحدث هذا الخلل،
حتى لا يقعوا فيه من حيث لا يشعرون.
وأورد أمثلةً لهذه الحساسية وتلكم اليقظة وردت عن أنبياء الله تعالى عليهم السلام:
- إبراهيم عليه السلام لما قال:
(الذي خلقني فهو يهدين * والذي هو يطعمني ويسقين * وإذا مرضتُ فهو يشفين)..
فهو لم يقل: "والذي يمرضني ويشفين"،
وإنما قال: (وإذا مرضت)،
فنسب إبراهيم عليه السلام المرض إلى نفسه،
مع أنَّه نسب الهداية والطعام والسقيا والشفاء إلى الله ربّ العالمين.
- المسيح عيسى عليه السلام لما يسأله الله عز وجل يوم القيامة:
(وإذ قال الله يا عيسى بن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله)
لم يُجب عيسى عليه السلام بقوله: لم أقل ذلك يا ربي؛ وإنما قال:
(قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقٍّ إن كنتُ قلتُه
فقد علمتَه تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنَّك أنت علام الغيوب).
- موسى عليه السلام لما نزل مدين قال:
(ربِّ إني لما أنزلتَ إليَّ من خيرٍ فقير)،
لم يقل: يا ربِّ لم تنزل عليَّ الخير،
وإنما قال: (إني لما أنزلت إليَّ من خيرٍ فقير)
فالخير قد نزل عليَّ ولكنَّني ما زلت فقيرًا.
- أيوب عليه السلام قال:
(وأيوب إذ نادى ربه أني مسنِّي الضرُّ وأنت أرحم الراحمين)،
لم يقل: عافني واشفني، وإنما قال: (وأنت أرحم الرَاحمين)،
كما أنه رغم أنه بقي سنين طوالاً يعاني أشكالاً من العذاب البدنيِّ والنفسيِّ والاجتماعيِّ،
رغم أنَّه عانى كل ذلك إلا أنَّه لما خاطب خالقه جل وعلا وصف كل عذاباته تلك بأنها "مسٌّ"،
كأنها شيئًا خفيفًا أصابه أو مسَّه، وهذا من قمة الأدب.
وغير ذلك أمثلةٌ كثيرة.
لذلك حينما نتعرَّض لهذا الحديث فإننا نتعرَّض لأهل الله تعالى وخاصته،
وهم من نحتاج أن نصل إلى ما وصلوا،
وأن نبلغ ما بلغوا، وهي سلعة الله تعالى الغالية.
وكي يتحقَّق كل ذلك، علينا أن نعي جيِّدًا أن الأمر لن يحدث في يومٍ وليلة،
بل هو يحتاج درايةً ودُربةً وصبرًا ومصابرةً ودأبًا وجدًّا،
وهو سهلٌ حين ييسره الله تعالى لمن صدق النيَّة وأحسن التوجُّه،
وهو أبعد من النجوم والأفلاك حين يداخل النيّة شائبةٌ من رياءٍ
أو كبرٍ أو شراكة، والله تعالى أغنى الشركاء سبحانه:
(أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه) رواه مسلم.
والمسلم هو إنسانٌ يصيبه ما يصيب البشر،
ويعتريه ما يعتريهم،
فهو قد ييأس في لحظة،
وقد يملُّ في أخرى،
وقد يضجر في ثالثة،
وقد يضيق ذرعًا حين تشتدّ عليه المصاعب والابتلاءات،
فينطق قلبه قبل لسانه بعبارات التأفف،
وتساؤلات الـ"لماذا"؛ لماذا أنا؟
لماذا كل هذا؟
لماذا تضيق عليَّ الدنيا؟
لماذا يعاقبني ربي؟
لماذا.. لماذا...
كل هذا شعورٌ إنسانيٌّ بشريٌّ طبيعيّ..
لا أقول أنّه واجب الوجود،
ولا أبرر وجوده، ولكنني أؤكِّد أنَّه طبيعيٌّ إن ظهر وبدا،
أمَّا غير الطبيعي فهو أن يتمادى الإنسان في هذا الشعور،
أو أن يتعدَّى الأمر إلى أفعال تدل على الاعتراض على قضاء الله تعالى وقدره.
وغني عن الذكر أن نقول أنَّ أولياء الله تعالى وخاصته لا يعتريهم هذا الشعور،
ولا يداخلهم ولو للحظة،
لأنَّهم يعرفون مع من يتعاملون،
وإلى من هم منتمون؛ جلَّ شأن ربنا وعزَّ.
اللهم اعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ,,,,,,